من هو أبو الطيب المتنبي؟
أبو الطيب المتنبي، شخصية استثنائية في تاريخ الأدب العربي، يُعتبر بحق أحد أبرز شعرائه وحكمائه. شاعر معروف بشخصيته الفريدة والغامضة، استطاع أن يُحيّر قراءه بشعره الذي لطالما كان محور الاهتمام والدراسة. وقد كانت قصائده مثار حيرة وإعجاب معاً، مما دفع النقاد والعلماء إلى التوسع في تفسيرها وشرحها، حيث أولى علماء اللغة وأفذاذها، مثل ابن جني وأبو علاء المعري وابن سيدة، اهتماماً بالغاً بشعره، مما يشهد على القيمة العظيمة لأدبه.
ولد المتنبي في العراق وعاش خلال القرن الرابع الهجري، وقد ترك وراءه إرثاً شعرياً ضخماً يضم 326 قصيدة تتنوع موضوعاتها بين المدح والهجاء والفخر والحكمة. هذه القصائد، بمثابة سجل تاريخي لأحداث زمانه وكذلك سيرة ذاتية للشاعر تعكس تطور فكره ونضجه الأدبي. تشير هذه الأعمال إلى كيفية تدفق الحكمة عبر شعره، وتظهر بوضوح في قصائده الأخيرة التي كتبها قبل وفاته.
إن دراسة شعر المتنبي تقدم لنا نافذة فريدة للنظر عبرها إلى عمق الثقافة العربية والأدبية، موضحةً كيف أن شاعراً واحداً قد يملأ الدنيا ويشغل الناس، ليس فقط بجودة شعره ولكن بعمق فلسفته وحكمته.
لماذا سمي المتنبي بهذا الاسم؟
تتعدد التفسيرات حول أصل تسمية المتنبي بهذا الاسم، حيث يرجع بعضها إلى قصة تزعم أنه ادعى النبوة في شبابه، مما أدى به إلى السجن من قبل والي حمص. هذه القصة، وفقاً للأديب المصري محمود محمد شاكر، تعتبر مفبركة ولا أساس لها من الصحة، وقد تم تأليفها بعد وفاته بزمن.
من جهة أخرى، يعتقد آخرون أن لقب “المتنبي” جاء نتيجة للورع والجدية التي كان يتمتع بها في خلقه وتوجهه العلمي، بعيداً عن كل ما هو مُحرّم. كسب المتنبي احترام وتقدير علماء الأدب واللغة والنحو، مثل الربعي وابن جني وأبي علي الفارسي، وكان يُكثر من ذكر الأنبياء في شعره، مُعبراً عن تشبيه نفسه بهم ومقارنة أخلاق من يمدح بأخلاق الأنبياء.
مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ
كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ
أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّـهغَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ
وردَ عن أبي علاءٍ المعرّي قوله في كتابه معجز أحمد أنّ المُتنبّي لُقّب بهذا اللقب نسبة إلى النَبْوَة، ومعناها
المكانُ المرتفع؛ إشارةً لرفعة شِعره وعُلوّه لا إشارةً لادّعائه النبوّة
حياه المتنبي
تُعتبر حياة الشاعر أبي الطيب المتنبي من أكثر السير الذاتية ثراءً وتعقيدًا في تاريخ الأدب العربي، مليئة بالأحداث والتحولات التي شكلت مسيرته الأدبية الفريدة. ولد في الكوفة عام 303 هـ، في منطقة تُعرف بكندة، وقد غلف الغموض مسألة نسبه؛ إذ انقسم المؤرخون بين من يعتقد أنه ينتمي إلى قبيلة كندة، إحدى أشهر قبائل العرب، وبين من يرى أنه من سكان حي كندة بالكوفة دون روابط قبلية مباشرة مع القبيلة. كما تباينت الآراء حول اسم والده، فقد تم ذكر أسماء مختلفة في المصادر التاريخية، ما يضيف المزيد من الغموض حول أصوله العائلية.
المتنبي لم يُظهر اهتمامًا بذكر والده في شعره، ما يثير التساؤلات حول طبيعة علاقتهما أو معرفته به. وقد تُرك الباب مفتوحًا أمام التكهنات، فهل كان ذلك بسبب عدم معرفته الوثيقة بوالده، أو لأن والده كان شخصًا عاديًا بلا مكانة تُذكر؟ أما بالنسبة لوالدته، فالمعلومات المتاحة عنها أقل بكثير؛ لا يُعرف عنها سوى أنها تُوفيت وهو في سن مبكرة، وقد تولت جدته رعايته وأحاطته بعطف كبير حتى بلوغه سن الرشد. هوية والدته ونسبها ظلتا أيضًا محاطتين بالغموض، على الرغم من بعض الإشارات إلى أنها كانت من أهل الكوفة وتنتمي إلى بني همدان.
لكنّه أشار إلى أنّ نسبها كان كريماً في هذا البيت الذي رثاها فيه حين ماتت فقال
لَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍلَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا
تبقى حياة المتنبي وأصوله موضوعًا مثيرًا للفضول والتحليل، حيث تمتزج الحقائق بالأساطير، مما يعكس تعقيدات العصر الذي عاش فيه والبيئة الثقافية الغنية التي أثرت في تشكيل موهبته الشعرية.
تعليم أبي الطيب المتنبي
أبو الطيب المتنبي، الشاعر العربي الشهير، انخرط في بداياته في تعلم علوم اللغة العربية بما في ذلك الشعر، النحو، والبلاغة في كُتّاب معروف بانتماء طلابه إلى نخبة الأشراف العلويين. ولم يقتصر تعليمه على هذا الإطار الأكاديمي فحسب، بل أمضى الجزء الأكبر من وقته بجانب الوراقين، مستغرقًا في قراءة الكتب التي كانت تحت تصرفهم، مما مكّنه من اكتساب جزء كبير من معرفته. كان للمتنبي شغف عميق بالعلم والأدب منذ صغره، وكان يتمتع بذكاء حاد وقدرة مذهلة على الحفظ.
تُسلط قصة توضح قدرته الفائقة على الحفظ الضوء على هذه الموهبة، حيث ذكر أنه خلال واقعة في صباه، استطاع حفظ كتاب كامل يحتوي على نحو ثلاثين صفحة خلال فترة وجيزة بما يكفي لإقناع صاحب الكتاب بإعطائه إياه كهدية، بعد أن تحداه بقدرته على حفظه.
بالإضافة إلى تعلمه في الكُتّاب ولدى الوراقين، قضى المتنبي أكثر من سنتين في البادية حيث اختلط بالأعراب. هذه التجربة ساهمت بشكل كبير في صقل مهاراته اللغوية وفصاحته، إذ استفاد من ثقافتهم ولغتهم العربية الفصحى. كان المتنبي معروفًا بغزارة معرفته ونقده الجيد، واهتمامه البالغ بدراسة اللغة وفروعها النادرة.
لم يكتف المتنبي بالمعرفة التي جمعها من تجاربه المبكرة، بل وسّع آفاقه عبر الاتصال بعلماء بارزين في عصره وسفره للقائهم وتعلم مزيد من العلوم على أيديهم. من بين هؤلاء العلماء كان السكري، نفطويه، أبو بكر محمد بن دريد، أبو القاسم عمر بن سيف البغدادي، وأبو عمران موسى. هذه التجارب المتنوعة والغنية أسهمت في تشكيل المتنبي كأحد أبرز شعراء العربية، معتمدًا على خلفية ثقافية وعلمية متميزة.
رحلات أبي الطيب المتنبي
رحلة المتنبي إلى بغداد
في طلائع الصباح، نقلت مذكرات أبو الطيب المتنبي أنه في شبابه، انتقل من الكوفة إلى بغداد. لم يُسجل هو نفسه أو المؤرخون تاريخًا دقيقًا لهذا الانتقال، إلا أن التقديرات تشير إلى أن رحلته هذه كانت على الأرجح في عام 319 هجرية.
رحلة المتنبي إلى بلاد الشام ولقائه بسيف الدولة
في رسالة الغفران للمعري، يُذكر أن أبا الطيب المتنبي توجه إلى بلاد الشام في العام 321 هجري، وكان يبلغ من العمر حينها ثمانية عشر عامًا، حيث كانت رغبته في البحث عن العلاء والمجد تدفعه للإقامة هناك وتأليف قصائد المديح. تلك الفترة شهدت حروبًا عدة ناتجة عن صراعات على السلطة، انتهت بسيطرة سيف الدولة الحمداني على حلب في العام 333 هجري، في حين ظلت دمشق تحت سيطرة الإخشيديين.
أثناء تلك الأحداث، أقدم المتنبي على مدح عدد من الرجال الذين شاركوا في المعارك، منهم مساور بن محمد الرومي، والحسين بن عبد الله بن طغج، وطاهر العلوي، بالإضافة إلى رؤساء العرب الذين التقى بهم في طريقه إلى الشام، خاصةً خلال إقامته في منبج مثل سعيد عبد الله بن كلاب المنبجي. يُشار أيضًا إلى أن المتنبي تعرض للسجن في شبابه بالشام، وهو الأمر الذي أجمع عليه الرواة وأشار إليه المتنبي نفسه في قصائده، مع وجود اختلافات في الروايات بشأن أسباب هذا السجن.
تابع المتنبي تنقله في الشام، مادحًا أمراءها وحاثًا إياهم على مواجهة الأعداء من الروم وغيرهم. انتقل بعدها للإقامة لدى بدر بن عمار والي طبرية لفترة امتدت بين العام 328 وأوائل العام 333 هجري، ثم اتصل بأبي العشائر الحمداني والي أنطاكية، ومن خلاله بسيف الدولة الحمداني.
وجد المتنبي في سيف الدولة الصفات القيادية التي كان ينشدها، مثل الفروسية، الذكاء، الإخلاص للعرب، والغيرة على دينهم، مما دفعه لوضع آماله في استعادة مجد العرب في يد هذا القائد. تطورت علاقة قوية بين الشاعر والأمير، حيث عاش المتنبي أفضل أيام حياته في كنف سيف الدولة، مؤلفًا في مدحه شعرًا خلد ذكره عبر الأزمان.
أقام المتنبي عند سيف الدولة لمدة تسع سنوات، مخصصًا شعره لمدحه، بدءًا من شهر جمادى الأولى في العام 337 ه
وَفاؤكُما كالرَّبْع أشْجاهُ طاسمهبأنْ تُسعِدا والدّمْعُ أشفاهُ ساجِمُهْ
جري. واختتم مدحه لسيف الدولة في العام 345 هجري، مودعًا إياه بقصيدة استهلالية تعكس عمق العلاقة التي نشأت بينهما.
عُقْبَى اليَمينِ على عُقبَى الوَغَى ندمُماذا يزيدُكَ في إقدامِكَ القَسَمُ
كما أنشده أيضاً في نفس العام مودّعاً إيّاه في قصيدةٍ استهلّها قائلاً:
أيَا رَامِياً يُصْمي فُؤادَ مَرَامِهِتُرَبّي عِداهُ رِيشَهَا لسِهامِهِ
الزمن الذي أمضاه المتنبي برفقة سيف الدولة يُعد من أكثر الفترات إنتاجًا في حياته، حيث ألف خلالها أكثر من ثمانين قصيدة ومقطوعة شعرية، تُعتبر من أفضل وأرقى أعماله الشعرية، بل ومن أجمل ما خُلد في تاريخ الشعر العربي. شعر المتنبي في هذه المرحلة تميز بالتنوع والغنى، انعكاسًا لتنوع أحداث حياة سيف الدولة نفسها. شعره، الذي احتفى بالأمير في مختلف الظروف، سواء في أوقات النصر أو الهزيمة، كان دائمًا يلتف حول شخصية سيف الدولة مهما تعددت أشكاله الفنية.
كان المتنبي يغدق بالمدح على سيف الدولة ليس فقط عندما يقود الحروب ويحقق الانتصارات، بل أيضًا عندما يدير شؤون رعيته بحكمة، معبرًا عن إعجابه بطريقته في استعادة الطاعة من المتمردين. لم يكن يفوت المتنبي فرصة رثاء القريبين من الأمير عند وفاتهم، كما أنه كان يتقن فنون العتاب والاستعطاف في قصائده لإصلاح ذات البين بينه وبين الأمير عندما تفرق بينهما كلام الوشاة. ولم يتردد في هجاء الحاسدين والمعارضين عند الضرورة، بجانب تميزه في وصف جهاد المسلمين ضد الروم، حيث أحدث إبداعات متجددة في هذا الجانب.
لكن هذا الوئام والود بين المتنبي وسيف الدولة لم يدم إلى الأبد، إذ سرعان ما نجح الحساد والوشاة في إثارة الفتنة بينهما، مما دفع المتنبي للدفاع عن نفسه، أحيانًا باللجوء إلى الهجاء كوسيلة للرد.
أفي كلّ يوْمٍ تحتَ ضِبْني شُوَيْعِرٌضَعيفٌ يُقاويني قَصِيرٌ يُطاوِلُ
لِساني بنُطْقي صامِتٌ عنهُ عادِلٌوَقَلبي بصَمتي ضاحِكٌ منهُ هازِلُ
وبالاستعطاف تارةً أخرى كقوله في داليته الشهيرة:[١١]
أزِلْ حَسَدَ الحُسّادِ عَنّي بكَبتِهمْفأنتَ الذي صَيّرْتَهُمْ ليَ حُسّدَا
إذا شَدّ زَنْدي حُسنُ رَأيكَ فيهِمُضرَبْتُ بسَيفٍ يَقطَعُ الهَام مُغمَدَا
وبالافتخار بنفسه مرات عدة كقوله:
وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِديإذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا
فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّراًوَغَنّى بهِ مَنْ لا يُغَنّي مُغَرِّدَا
أجِزْني إذا أُنْشِدْتَ شِعراً فإنّمَابشِعري أتَاكَ المادِحونَ مُرَدَّدَا
وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّنيأنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى
رحلة المتنبي إلى مصر ولقائه بكافور
أبو الطيب المتنبي، مدفوعًا بمشاعر الإحباط، ترك حلب في العام 346 هجرية متوجهًا أولاً إلى دمشق قبل أن تقوده الأقدار إلى مصر بدعوة من كافور الإخشيدي. وصل المتنبي إلى مصر وهو يعاني من جرح عميق في نفسه وخيبة أمل كبيرة. خلال الخمس سنوات التي أمضاها في مصر، أنشأ المتنبي عدة قصائد في مدح كافور، ليس من منطلق الحب أو الإعجاب، بل رغبةً في تحقيق طموحاته والارتقاء بمكانته. كان كافور على وعي تام بأن مشاعر المتنبي تجاهه لم تكن صادقة، فلم يستجب لأماني الشاعر وبدلًا من ذلك، زاد من معاناته.
هذا التوتر في العلاقة دفع المتنبي لتغيير نبرة شعره تجاه كافور، متحولًا من المدح إلى الهجاء، وأطلق على هذه الأعمال اسم “الكافوريات”. تجربة المتنبي المريرة في مصر تركت أثرًا بالغًا على شعره، مُظهرةً جانبًا مختلفًا عن كل ما كتبه من قبل. شعره خلال هذه المدة تميز بمهارات فريدة وعكس خلاصة تجارب حياته.
رحلة المتنبي للقاء عضد الدولة وابن العميد
بعد مواجهة المتنبي للإحباط في مصر مع كافور، تحول مساره إلى العراق، حيث جاب بين الكوفة وبغداد، ليستقر مؤقتًا في أرجان بحثًا عن رعاية أبي الفضل ابن العميد، وزير عضد الدولة. خلال إقامته، ألف المتنبي مجموعة قصائد في مدح ابن العميد، والتي عُرفت فيما بعد بالعميديات. في هذه الفترة، تلقى دعوة من عضد الدولة بن بويه لزيارته، دعوة قبلها المتنبي بكل اهتمام، ليجد عند السلطان استقبالًا حارًا وتقديرًا يليق به، مما أعاد إليه شعوره بالحرية والإبداع الذي ضاع منه في مصر، وإحياء آماله وطموحاته الشعرية.
خلال ثلاثة أشهر من الإقامة في ضيافة عضد الدولة، أبدع المتنبي في تأليف ست قصائد تفوق الوصف، أطلق عليها العضديات. بالرغم من هذا التكريم والتقدير الذي وجده عند عضد الدولة، أبدى المتنبي رغبة غير مفسرة في العودة إلى العراق، مودعًا ابن بويه بقصيدة افتتاحية شهيرة.
فِدًى لكَ مَن يُقَصّرُ عَن مَداكافَلا مَلِكٌ إذَنْ إلاّ فَدَاكَا
وفاة أبو الطيب المتنبي
في زمن كان المتنبي يبلغ ذروة إبداعه، انطفأت شعلته المضيئة في عالم الشعر؛ إذ لقي حتفه مقتولًا في سن الخمسين على يد فاتك الأسدي، خال ضبة الأسدي الذي استهدفه المتنبي بالهجاء في إحدى قصائده. هذا المصير المأساوي كان في رحلة عودته من شيراز إلى بغداد، حيث كمن له فاتك ورجاله في منطقة النعمانية غرب بغداد، مستغلين عدم تكافؤ العدد بين الطرفين. وفي ذلك القتال، سقط مُحسد ابن المتنبي قتيلًا، وعندما أراد المتنبي الفرار، ذكّره غلامه ببيت شعره المشهور الذي يمتدح فيه شجاعته، مما دفع المتنبي للعودة والقتال حتى مات شهيد قصيدته.
يُشار إلى أن هناك روايات مختلفة تحيط بظروف مقتل المتنبي والأيدي التي أججت هذه النهاية الدرامية، بالإضافة إلى التكهنات حول الأسباب الحقيقية وراء هذا العداء القاتل، ومن كان له دور في إرشاد أعداء المتنبي إلى مكمنه.